الأحد، 3 أكتوبر 2010

الفن والغرابة . .مقدمة في تجليات الغريب في الفن والحياة

الغرابه أو الوحشة شعور غير مكتمل يوجد في تلك الفجوة الموجوده بين الإدراك والمعرفة وهو شعور مثير للإهتمام لأنه إيحائي إيمائي في تكوينه للخبرات التي يتم الوصول إليها أو تشكيلها جماليا ,شعور قد يكون موجود وقابلا لأن يتم تشكيله وإسقاطة بواسطة الخيال وليس فكرة يتم تشكيلها على نحو مناسب داخل العقل ومن ثم فإن الإحساس بالغرابه إنما يشير إلى ضرورة وجود إستثارة أكثر للخيال النشط ,كي يمنحنا ذلك الخيال إحساس بوجود شئ ما هناك ويساعدنا كذلك في تشكيل ما يسكن في الداخل (هناك)داخل تلك الحاله الشبحيه التي قد تجسد ذلك الإحساس الذي يمنحنا الخيال بوجود شئ ما هناك داخل المعرفة  ,هكذا يوجد هذا الشئ الشبحي وراء المشاعر .ووراء اللوحات ,والأفلام والمشاهد والصور وربما وراء الحياة نفسها في شكل رغبات وصراعات وأمنيات
ومن هنا تأتي أهميه كتاب الفن والغرابة للدكتور شاكر عبد الحميد والذي يعد من أهم الدراسات التي أجريت مؤخرا في مجال الدراسات الجماليه  والصادر عن عن دار ميريت للنشر ..
                                                 حول معنى الغرابة
في البدايه يتحدث د.شاكر عن أهمية مصطلح الغرابه في التفكير والنقاش المعاصر الدائر عبر العديد من الحقول المعرفيه التي تشتمل على الفلسفة والأدب والإجتماع والدراسات السينمائيه والعمارة والتحليل النفسي ويعود الكثير من الأهميه المنسوبه لهذا المصطلح إلى دراسه فرويد المبكره عام 1919 تلك التي حدد فيها طبيعته فقال انه يتعلق بتلك المشاعر الخاصة  تجاة شئ لا يكون ببساطه فقط غامضا على نحو غير عادي ولكنه يكون وعلى نحو أكثر تحديدا  مألوفا على نحو غريب ....
هكذا قد تنبغ غرابة شئ من الألفه الشديده بعد أن تم كبته ثم عاود الظهور في اللا وعي الفردي أوالجمعي
ورصد الكاتب وجود الغرابه بأشكالها المختلفه في الكثير من الأعمال الأدبية
ثم طرح المفاهيم الشقيقه للغرابه حيث فرق بين الغربه في جوهرها غربه عن المكان أو حتى غربه في المكان كما كان الحال لدى أبي حيان التوحيدي وبين الإغتراب كحاله من الشعور بأن المرء نفسه غريب حتى عن ذاته أما التغريب فهو حيله فنيه تميل من خلالها الى نزع الألفه عن المألوف ..
                                        نظريات الغرابه
في الفصل الثاني من الكتاب يشرح د.شاكر كيف أن الجذور الحقيقيه لمفهوم الغرابه توجد في قلب المفهوم الفلسفي الخاص بالجليل .كما أشار بيرك -على المستوى الفسيولوجي -أن الأحساسيس المرتبطه بالجليل على أنها أشبه بالألم السلبي ,الذي يمكن أن نسميه المتعه الخاصه بالجليل والتي تتميز عن المتعه الإيجابيه الخاصة بالجميل وذلك لأن متعه الجميل تتطلب الأقتراب منه بينما متعه الجليل تتطلب الأبتعاد عنه لمسافه معينه وتأمله ومن خلال ذلك نتفادى الألم والرعب الذي قد يحدث لو إقتربنا كثيرا
حتى القرن الثامن عشر كان الجليل متعلق بالفن أكثر من تعلقه بالطبيعه ,وخلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر حققت العمارة القوطية نجاحا غير مسبوق ,مقارنه بعمارة النسب والتناسب الكلاسكية الجديدة وقد اتسمت العمارة القوطيه بالولع بغير المتناسب الطويل والمدبب والذي لا شكل محدد له كما أظهرت ولعا بالخرائب المدمرة والبقابا والمباني المدمرة القديمة
                                               صخرة كانط
فرق كانط بين الجليل والجميل فقد نظر الى المتعه الخاصة بالجميل على انها لعب حر مشترك ما بين الخيال والعقل ,اما فيما يتعلق بالجليل فقد ميز كانط كما فعل بالنسبه للخيال بين نوعين من الجليل :الرياضي والدينامي .
احد العناصر الرئيسيه في فكرة الجليل لدى كانط ما يتعلق بفعل او نشاط الإحلال أو الإبدال ما اطلق عليه كانط الأخفاءللحقائق أو تحريفها فخلال هذه العمليه تحاول الذات أن تستبدل اللا موضوع المرتبط بالإنفعال إنفعال الرهبه والخوغ وتحل محله شيئا قابل للأمساك به أو فهمه أو تمثيله في العالم الخارجي
                                        شيللر والخوف الممتع
عام 1792 كتب فردريك فون شيللر "حول الفن الدرامي"يقول:هناك ظاهرة عامه خاصة بطبيعتنا الإنسانيه وتتمثل في أن الأشياء الحزينه أو المقلقه بل وحتى المرعبه يكون لها جاذبيتها التي لا تقاوم بالنسبه لنا
                                              حول الفن والغرابة
في الفصل الثالث تحدث عن الفن واستكشاف الغرابه ,بالنسبه للفنانين الطليعيين قدمت الغرابه أداه لنزع الألفه عن المألوف ,وقد أستكشف  الفنانون والكتاب التعبيريون أمثال كيوبن وكافكا وغيرهم الشروط الخاصه بالغريب الحديث فاتجهوا نحو الأهتمام بموضوعات مثل القرين والأوتوماتا واختلال الشعور بالواقع وقدموها كأعراض للوجود والحياة ,وكذلك اهتم الرمزيون والمستقبليون والدادائيون والسيرياليون والميتافيزيقيون وغيرهم بالغرابه كحاله تقع بين الحلم واليقظه وبهذه الطريقه تجدد الأهتمام بالغريب بوصفه فئه فنيه جماليه ,فئه يعاد التفكير فيها وادراكها الآن على انها العلامه الفارقه الداله على الميل الخاص للحداثه الى احداث الصدمه والأضطراب
وهكذا فإن الظل والقرين والأشباح والوحوش والفنون ليست إلا صور ا محاكيه ثانويه قام الإنسان بالتجسيد من خلالها عبر تاريخه الخوف من الذات ومن الآخر ,من المكان,من المجهول والغريب ..
                                                       الغرابه والمكان
في الفصل الرابع طرح فكرة المكان من خلال التفرقه بين أنواع المكان والوظيفه الرمزيه للمكان التي ترتبط بالوظيفه الجغرافيه ,الوظيفه التعبيريه التي تتعلق بإختيار المرءللمكان وتعبيرة ووصفه للأماكن ,وتعبيره عن القيم التي تؤمن بها هذه الجماعه....,كما تحدث عن المكان وأزمنه الهويه....
نتيجه لربط فرويد بين الغرابه والبيت وكذلك الرغبه المستحيله لدى البعض في العوده الى الرحم,الى الأرض,فإنه قد تم ايضا الربط بين هذا المفهوم وعمليات الحنين الى الوطن (النوستالجيا)أو الماضي او الموت ....
ثم تحدث عن العماره القوطيه (عمارة الخوف) التي تطلق على  هذا النمط الغريب من العماره أبرز الخصائص المميزه للعمارة القوطيه فهي الأقواس والقباب المدببه أو الحاده المسننه والعقود والسراديب المضلعه والدعامات أو الأكتاف المقنطرة
أما العمارة الترقيعيه حيث البناء العشوائي أشبه بجراحه ترقيعيه ممتده ومستمرة في تلك الأحياء العشوائيه الصغيره الحديثه التي قامت حول المدن الكبيرة وقد خرجت من تلك الأحياء كل أنواع السلوك  الغريب و العشوائي
ومن تجليات الغرابه في العمارة ايضا العماره التفكيكيه وهي من العماره التي تدعو لهدم الأسس الهندسيه التقليديه وتفكيك المنشآت الى اجزاء واعادة النظر في العلاقات الإنسانيه والعمرانيه 
والهدم هنا كما يرى تشومي هدم إيجابي بقصد إعادة البناء....
                                                    الغرابه التكنولجيه
يستعين الكاتب في بدايه هذا الفصل بربط تيري كاسل بين الغرابه والتكنولجيا :كل شئ اليكتروني له جانبه الغريب وهذا صحيح في أجهزة مثل التليفونات وكاميرات التصوير والتليفزيون والحواسب الشخصيه ,آلات صرف النقد وأشعه إكس ,اجهزه الرد الآليه على الإتصالات ,الأقراص الممغنطه وغيرها فعندما يستطيع أي شئ غير انساني أن يتكلم ويتحرك ويستجيب للحركه ويجيب على الأسئله ويشير إلينا ويصور أجسادنا ,فإننا نواجه نوعا من المتاهه المعرفيه والحيره ونحن نتعامل مع تلك الأجهزه على نحو منطقي,على الرغم مما تحويه من جوانب عديدة تتجاوز المنطق وربما الخيال..
                                                    الغرابة التشكيليه
في الفصل السادس الغرابه التشكيليه تبدأمع أبعاد الظل العميقه حيث ترتبط في جوهرها بفكرةالآخر,فكرة الخلق للقرين ,هنا أصبح الظل ظاهرة لها قوتها المستقله الخاصة المميزة لها ,لها قوة تتعلق بفكرة الإحيائيه لدى فرويد وقبله فريزر,لقد أصبح ذلك الظل المتراجع الغائب الهامشي الساكن غير الفعال ,حاضرا ومتقدما مركزيا  متحركا ومؤثرا
لقد كانت المضاعفه للذات عنصر أساسيا في الخلق للأثر الخاص بالغرابه.وقد تمسك رانك بالقول أن القرين هو نوع من الضمان والأمان في مواجهة أية عمليات تدمير ممكنه للذات ..
تحدث كذلك عن المدرسه الأنطباعيه التي اهتمت بالإنطباعات الحسيه الخاصه بالفنان  واهتمت كذلك بالعالم الذي يوجد مابين الموضوع وعين الفنان وكان من أقطابها مانيه وبيسارو وفان جوخ,أما الرمزيون فاهتموا بعرض الصور التي يستمدونها من عالم الخيال ,ثم يحاولون الإيحاء للمشاهد بواقعيه هذة العوالم وتماسكها ...هكذا ينظر الرمزيون للداخل بينما ينظر الإنطباعيون الى الخارج
أما السيرياليه فلعل الملمح المميز لها ،هو قدرتها على إثارة الأضطراب ،اي هذه القدره التي تجعلنا نندمج من خلالها في حاله جماليه خاصه قد تكون غريبه ومخيفه لكنها على الرغم من ذلك ،تكون غامضه ومهيمنه علينا على نحو شديد الحيويه 
هكذا تجمد الصور السيرياليه المشاهد لها من خلال "احساس ما بالغرابه"مهيمن عليها وهو احساس يتجاوز توصيفاتنا السياسيه والجماليه والتاريخيه 
تحدث أيضا عن ظهور الوحوش والكائنات الغريبه في الفن منذ فترة طويله وتجلت على نحو خاص في اعمال فنانين امثال بوش وبروجل وجويا وغيرهم ،لكن الغرابه في جوهرها العميق ،الغرابه الموجوده داخل الحياه وليس خارجها ،ربما تكون الأبنه الحقيقيه للقرن العشرين ,وقد ظهرت في اعمال المدرسه الألمانيه ومابعد الانطباعيه ,مدرسه سحر الواقعيه ثم في اعمال المدرسه السيرياليه الفرنسيه وفي اعمال فنانين كثيرين أشار الكاتب اليهم خلال الكتاب
                                                 الغرابه المسرحيه
أيا ما كان الإتجاة المسرحي وصاحبه:ثمه روح شبحيه في المسرح ثمة غياب حاضر وحضور غائب ثمه قوة للتكرار أو لعوده الغائب ,تبلغ الغرابه قمتها في مسرح العبث حيث لا شئ يحدث وحيث اليأس وخواء الكفاح في العالم وحيث التكرار والعود الأبدي لكل شئ وحيث القتل بلا اجر كما لدى أونيسكو ,وحيث الأنتظار بلا طائل من ورائه لدى بيكيت "في انتظار جودو"وحيث لا هدف ولا غايه سوى محاوله استراجون وفيلاديمير بطلا المسرحيه ,اكتشاف بعض المعنى في هذا العالم المشوش الذي يوجدان على حافته حيث الحيرة المعرفيه تصل الى نهايتها القصوى ,ولايكون بديل على الأنتظار بلا طائل ولا جدوى في متاهه التكرار والمرايا المتشابهه وحيث الأصوات الغامضه التي ترد اليهم وتصدر عنهم .ومع ذلك ليس التكرار وحده ولا الأختلاف في حد ذاته قادرين على توليد عنصر الغرابه في فن التمثيل  .ومن ثم فإنه ليس كل تمثيل غريب بالضروره ,حتى ولو كان الغريب في جوهرة يجد هدفه في قلب فن التمثيل ذاته
                                               السينما والرعب والغرابه
يقول بعض منظري السينما أمثال ستيفن شنايدر إن النجاح الملحوظ لأفلام الرعب والتشويق والأثاره الحديثه مثل صمت الحملان مثلا انما يرجع الى واقعيتها الغريبه ,حيث لا يكون العالم المصور في هذه الأفلام متفقا فقط مع الواقع الخاص بالعالم الذي نعيش فيه ومن ثم يعمل على زيادة احتمالات تأثيرات  الغرابه  الخاصه بهذه الأفلام ولكن ايضا ان الوحوش الموجوده في هذه الأفلام تكون على الرغم من شكلها الإنساني ما زالت قادره على ان تستثير لدى الجمهورذلك الصراع المتعلق بالأفكار الضروريه التي عندما ترد الى اذهاننا يستثار بداخلنا كل تلك المشاعر الخاصه بالغرابه ...
                                         فنانون وغرباء 
عبر فان جوخ عن شعوره بغرابه هذا العالم من خلال قيامه بالرسم بقوة وسرعه واصرارة على ان يمسك -فنيا-باللحظات والإنفعالات السريعه الهاربه ومن ثم كانت الوانه المشعه وأصباغه اللونيه المهمشه ثم كان تحوله  التدريجي الى المرض العقلي والأكتئاب وقطع الأذن ثم الأنتحار 
أما وولفلي  فقد فعل العكس لقد بدأبنوبات من الأضطراب والجنون ثم تدريجيا وبالفن وعلى الرغم من اقامته في مستشفى "والدو"لمدة وصلت الى خمسه وثلاثين عاما فإنه أنتج خلالها مئات اللوحات وآلاف الصفحات من الكتابات النثريه والقصص المصورة وغيرها 
وقد جسد "مونش " شعورة بالغرابه من خلال تلك الصرخه العنيفه المدويه التي ترددت أصداؤها في الأفق وجسده"هوبر"من خلال التأمل في حاله الصمت وتجلياته،وجسده كيريكو من خلال تأمله في الظل بدلاله وعلاقاته مع النور وجسده إنسور من خلال ولعه بالتصوير الساخر وفعل ميسرشمت ذلك  في إبداع غير مسبوق وتجسيد للإنفعالات الإنسانيه من خلال النحت.
وفي كل الحالات كانت مقاومه للغرابه والعبث والخواء واللا جدوى ,مقاومه بالفن والتجدد والأمل والخيال...

                                             شيماء أحمد
                                                             نشر في مجلة الثقافه الجديدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق